فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (18):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدواب وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان جميع ما تقدم في هذه السورة دالًا على أنه على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يريد، وختم ذلك بأنه بكل شيء عليم لم يغب ولا يغيب شيء عنه، فاقتضى ذلك قيوميته، وكان بحيث يستعظم لكثرة الخلائق فكيف بأحوالهم، قرر ذلك في جواب من كأنه سأل فهي في معنى العلة، فقال: {ألم تر أن الله} أي الحائز لجميع الكمال المبرأ عن كل نقص {يسجد له} أي يخضع منقادًا لأمره مسخرًا لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها {من في السماوات}.
ولما كان في السياق مقتضيًّا للإبلاغ في صفة القيومية بشهادة ذكر الفصل بين جميع الفرق، أكد بإعادة الموصول فقال: {ومن في الأرض} إن أخلت غير العاقل فبالتغليب، وإن خصصت فبالعاقل أفهم خضوع غيره من باب الأولى.
ولما ذكر ما يعم العاقل وغيره، أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأن كلًا منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال: {والشمس والقمر والنجوم} من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعرى لخم، والثريا طيىء وعطاردًا أسدًا، والمرزم ربيعة- قاله أبو حيان.
ثم أتبع ذلك أعلام الذوات السفلية فقال: {والجبال} أي التي تنحت منها الأصنام {والشجر} التي عبد بعضها {والدواب} التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله، ومن المعلوم لكون هذه لا تعقل- أن أمره لها هو مراده منها.
ولما كان العقلاء من المكلفين قد دخلوا في قوله: {ومن في الأرض} دخولًا أوليًّا، وكان السجود الممدوحون عليه إنما هو الموافق للأمر، لا الموافق للأرادة المجردة عن الأمر، قال دالًا على أرادته هنا بتكريرهم وتقسيمهم بعد إدخالهم في السجود الإدارة وتعميمهم: {وكثير من الناس} أي يسجد سجودًا هو منه عبادة شرعية فحق له الثواب {وكثير} أي منهم {حق عليه العذاب} بقيام الحجة عليه بكون لم يسجد، فجحد الأمر الذي من جحده كان كافرًا وإن كان ساجدًّا عابدًا بالمعنى اللغوي الذي هو الجري مع المراد، وعلى القول بأن هذا في تقدير عامل من لفظ الأول بغير معناه هو قريب من الاستخدام الذي يعلو فيه ضمير على لفظ مراد منه معنى آخر، والآية من الاحتباك: إثبات السجود في الأول دليل على انتفائه في الثاني، وذكر العذاب في الثاني دليل على حذف الثواب في الأول.
ولما علم بهذا أن الكل جارون مع الأرادة منقادون أتم انقياد تحت طوع المشيئة، وأنه إنما جعل الأمر والنهي للمكلفين سببًا لإسعاد السعيد منهم وإشقاء الشقي، لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه من أحوالهم فيما بينهم، كان المعنى: فمن يكرم الله بتوفيقه لا متثال أمره فما له من مهين، فعطف عليه: {ومن يهن الله} أي الذي له الأمر كله بمنابذة أمره {فما له من مكرم} لأنه لا قدرة لغيره أصلًا، ولعله إنما ذكره وطوى الأول لأن السياق لإظهار القدرة، وإظهارها في الإهانة أتم، مع أن أصل السياق للتهديد؛ ثم علل أن الفعل له لا لغيره بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {يفعل ما يشاء} أي كله، فلو جاز أن يمانعه غيره ولو في لحظة لم يكن فاعلًا لما يشاء، فصح أنه لا فعل لغيره، قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ن القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي- رضي الله عنهم- أنه قيل له: إن هاهنا رجلًا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وقد مر في سورة يوسف عند {إن الحكم إلا لله عليه توكلت} [يوسف: 67] ما ينفع هنا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ} ففيه أسئلة:
السؤال الأول: ما الرؤية هاهنا الجواب: أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه.
السؤال الثاني: ما السجود هاهنا قلنا فيه وجوه: أحدها: قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقال لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، {أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74]، {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44]، {وَسَخَّرْنَا مَعَ داود الجبال يُسَبّحْنَ} [الأنبياء: 79] والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصًا من غير فائدة والجواب من وجوه: أحدها: أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عامًا في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص وإن كان ساجدًّا بذاته لَكِنه متمرد بظاهره، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها: أن نقطع قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن نقول تقدير الآية: ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعًا.
الثاني: أن يكون قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله: {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب}، والثالث: أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب وثالثها: أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعًا يقول: المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد، ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء، الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد.
السؤال الثالث: قوله: {أنَّ اللَّهِ يَسْجُدُ لهُ مَن فِي السماوات الأرض} لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} الجواب: لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرًا منهم يسجدون طوعًا دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب.
القول الثاني: في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي، وقد يتطرق إليها الصدق والكذب، أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] وهذا قول القفال رحمه الله.
القول الثالث: أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجدًّا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} [النحل: 48] وهو قول مجاهد.
وأما قوله: {كَثِيرٍ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فقال ابن عباس في رواية عطاء {وكثير من الناس} يوحده {وكثير حق عليه العذاب} ممن لا يوحده، وروى عنه أيضًا أنه قال: {وكثير من الناس} في الجنة.
وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} مبتدأ وخبره محذوف، وقال آخرون: الوقف على قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} ثم استأنف فقال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود.
وأما قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرمًا لهم، ثم بين بقوله: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب، والله أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي السَّجْدَةِ الأولى مِنْ الْحَجِّ أَنَّهَا مَوْضِعُ سُجُودٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا وَفِي الْمُفَصَّلِ، فَقال أَصْحَابُنَا: سُجُودُ القران أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا الأولى مِنْ الْحَجِّ وَسُجُودُ الْمُفَصَّلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.
وَقال مَالِكٌ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ القران إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَقال اللَّيْثُ: أَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْجَدَ فِي سُجُودِ القرآن كله وَسُجُودِ الْمُفَصَّلِ وَمَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ حم: {إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَقال الشَّافِعِيُّ: سُجُودُ القران أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ ص فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ.
قال أَبُو بَكْرٍ: فَاعْتُدَّ بِآخِرِ الْحَجِّ سُجُودًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ سَجَدَ فِي ص» وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَجْدَةِ حم: السَّجْدَةُ بِآخِرِ الْآيَتَيْنِ، كَمَا قال أَصْحَابُنَا.
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَمْ يَسْجُدْ فِي النَّجْمِ».
وَقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «: سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْمِ».
قال أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ فِيمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سَجَدَ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ السُّجُودِ فِيهَا فَأَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِيهِ، وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَأَخَّرَهُ لِيَسْجُدَ وَهُوَ طَاهِرٌ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قال: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {إذَا السماء انْشَقَّتْ} و{اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمَارٍ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قالوا: «فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» وَقالوا: «إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ بِسَجْدَتَيْنِ».
وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ».
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال الأولى عَزْمَةٌ وَالآخرةُ تَعْلِيمٌ.
وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإبراهيم وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ، وَبَيَّنَ فِي حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الأولى عَزْمَةٌ وَالثَّانِيَةَ تَعْلِيمٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الأولى هِيَ السَّجْدَةُ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا عِنْدَ التِّلَاوَةِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ السُّجُودِ فَإِنَّمَا هو تَعْلِيمُ الصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَهُوَ مِثْلُ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: السَّجْدَةُ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَجِّ إنَّمَا هي مَوْعِظَةٌ وَلَيْسَتْ بِسَجْدَةٍ، قال اللَّهُ تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فَنَحْنُ نَرْكَعُ وَنَسْجُدُ.
فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ إنَّمَا أرادوا أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ السُّجُودِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ الْوَاجِبَةَ هِيَ الأولى دُونَ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ الرُّكُوعَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّلَاةُ، فَهُوَ إذًا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ انْتِظَامِهَا لِلسُّجُودِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلسُّجُودِ؟ وَقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكَ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَلَيْسَ ذَلِكَ سَجْدَةً؟ وَقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ؟ كَقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَن يُهِن اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكرمٍ} فيه وجهان:
أحدهما: ومن يهن الله فيدخله النار فما له من مكرم فيدخله الجنة.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من ثواب وعقاب، وهذا قول يحيى بن سلام. والثاني: ومن يهن الله بالشقوة فما له من مكرم بالسعادة.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءَ} من شقوة، وهذا قول الفراء وعلي بن عيسى. ويحتمل عندي وجهًا ثالثًا: ومن يهن الله بالانتقام فما له من مكرم بالإنعام، إن الله يفعل ما يشاء من إنعام وانتقام. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ألم تر} تنبيه رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء فـ: {من في السماوات} الملائكة، {ومن في الأرض} من عبد من الشر، {والشمس} كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس، وكانت تميم تعبد الدبران، وكانت لخم تعبد المشترى، وكانت طيِّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت ربيعة تعبد المرزم، {والجبال والشجر} منها النار وأصنام الحجارة والخشب، {والدواب} فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه، والسجود في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر:
ترى الأكم فيه سجدًّا للحوافر

وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف، وقال مجاهد: سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع: هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفًا على ما تقدم، أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكارة ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال: سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعًا بالابتداء مقطوعًا مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله: {وكثير من الناس} لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك {ومن يهن الله} الآية وقرأ جمهور الناس {من مكرِم} بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور: {والدواب} مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة: البسيط:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ** مفدم بسبا الكتان ملثوم

أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو على في مثله: الكامل:
حتى إذا ما لم أجد غير الشر ** كنت أمرًا من مالك بن جعفر

وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة. اهـ.